كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد فهم بعضهم كون المراد تبليغ الأحكام وما يتعلق بها من المصالح دون ما يشمل علم الأسرار من قوله سبحانه: {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} دون ما تعرفنا به إليك، وذكر أن علم الأسرار لم يكن منزلًا بالوحي بل بطريق الإلهام والمكاشفة، وقيل: يفهم ذلك من لفظ الرسالة، فإن الرسالة ما يرسل إلى الغير، وقد أطال بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم الكلام في هذا المقام، والتحقيق عندي أن جميع ما عند النبي صلى الله عليه وسلم من الأسرار الإلهية وغيرها من الأحكام الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزل فقد قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شيء} [النحل: 89] وقال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شيء} [الأنعام: 38]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي وغيره: «ستكون فتن، قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما فيكم»، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني في «الأوسط» من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أحل إلا ما أحل الله تعالى في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله تعالى في كتابه»، وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علمًا حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.
وقال بعضهم: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى حتى أن البعض استنبط عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين سنة من قوله سبحانه في سورة المنافقين (11): {وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا} فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده بنفس ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان، فإذا ثبت أن جميع ذلك في القرآن كان تبليغ القرآن تبليغًا له، غاية ما في الباب أن التوقيف على تفصيل ذلك سرًا سرًا وحكمًا حكمًا لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد، وكم من سر وحكم نبهت عليهما الإشارة ولم تبينهما العبارة، ومن زعم أن هناك أسرارًا خارجة عن كتاب الله تعالى تلقاها الصوفية من ربهم بأي وجه كان، فقد أعظم الفرية وجاء بالضلال ابن السبهلل بلا مرية.
وقول بعضهم: أخذتم علمكم ميتًا عن ميت ونحن أخذناه عن الحي الذي لا يموت، لا يدل على ذلك الزعم لجواز أن يكون ذلك الأخذ من القرآن بواسطة فهم قدسي أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ، ويؤيد هذا ما صح عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي كرم الله تعالى وجهه: هل عندكم كتاب خصكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا إلا كتاب الله تعالى أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة وكانت متعلقة بقبضة سيفه قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر.
«ويفهم منه كما قال القسطلاني جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولًا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة»، وما عند الصوفية على ما أقول كله من هذا القبيل إلا أن بعض كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء، لكنها مبنية على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار، وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات لقول علي كرم الله تعالى وجهه كما في «صحيح البخاري» «حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم» أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على ما يقتضيه حسن الظن بهم بحث آخر لسنا بصدده.
وقريب من خبر أبي جحيفة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عنترة قال كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فجاءه رجل فقال: إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: {يَعْمَلُونَ يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ}؟ والله ما ورّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء، وحمل وعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي لم يبثه على علم الأسرار غير متعين لجواز أن يكون المراد منه إخبار الفتن وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت، أو المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وذمهم، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكني عن بعض ذلك ولا يصرح خوفًا على نفسه منهم بقوله: «أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين وإمارة الصبيان»، يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فمات قبلها بسنة، وأيضًا قال القسطلاني: لو كان كذلك لما وسع أبي هريرة كتمانه مع ما أخرج عنه البخاري أنه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثًا ثم يتلو {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} إلى قوله تعالى: {الرحيم} [البقرة: 159، 160] إلى آخر ما قال، فإن ما تلاه دال على ذم كتمان العلم لاسيما العلم الذي يسمونه علم الأسرار؛ فإن الكثير منهم يدعي أنه لب ثمرة العلم، وأيضًا إن أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك، وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم؟ فمن أين علم أن الذي علمه هو هذا؟ا ومن ادعى فعليه البيان، ودونه قطع الأعناق.
فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه ما فيه، ومثله ما روي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه، نعم للقوم متمسك غير هذا مبين في موضعه لكن لا يسلم لأحد كائنًا من كان أن ما هم عليه مما خلا عنه كتاب الله تعالى الجليل، أو أنه أمر وراء الشريعة، ومن برهن على ذلك بزعمه فقد ضل ضلالًا بعيدًا، فقد قال الشعراني قدس سره في «الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية»: سمعت سيدي عليًا المرصفي يقول: لا يكمل الرجل في مقام المعرفة والعلم حتى يرى الحقيقة مؤيدة للشريعة، وأن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية، وإنما هو عينها.
وسمعت سيدي عليًا الخواص يقول مرارًا: من ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أو عكسه فقد جهل لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف حقيقة أبدًا حتى قالوا: شريعة بلا حقيقة عاطلة وحقيقة بلا شريعة باطلة، خلاف ما عليه القاصرون من الفقهاء والفقراء، وقد يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على وجه لا يستطيع المخالف معه على فتح شفة.
ومما نقلنا عن القسطلاني في خبر أبي جحيفة يعلم الجواب عما قيل في الاعتراض على الصوفية: من أن ما عندهم إن كان موافقًا للكتاب والسنة فهما بين أيدينا، وإن كان مخالفًا لهما فهو ردّ عليهم، وما بعد الحق إلا الضلال، والجواب باختيار الشق الأول وكون الكتاب والسنة بين أيدينا لا يستدعي عدم إمكان استنباط شيء منهما بعد، ولا يقتضي انحصار ما فيهما فيما علمه العلماء قبل، فيجوز أن يعطي الله تعالى لبعض خواص عباده فهمًا يدرك به منهما ما لم يقف عليه أحد من المفسرين والفقهاء المجتهدين في الدين، وكم ترك الأول للآخر، وحيث سلم للأئمة الأربعة مثلًا اجتهادهم واستنباطهم من الآيات والأحاديث مع مخالفة بعضهم بعضًا، فما المانع من أن يسلم للقوم ما فتح لهم من معاني كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإن خالف ما عليه بعض الأئمة، لكن لم يخالف ما انعقد عليه الإجماع الصريح من الأمة المعصومة، وأرى التفرقة بين الفريقين مع ثبوت علم كل في القبول والرد تحكمًا بحتًا كما لا يخفى على المنصف.
وزعمت الشيعة أن المراد: بِ {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} خلافة علي كرم الله تعالى وجهه، فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستخلف عليًا كرم الله تعالى وجهه، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعًا له عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نزلت هذه الآية في علي كرم الله تعالى وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته فتخوّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم، وأخذ بيده فقال عليه الصلاة والسلام: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأخرج الجلال السيوطي في «الدر المنثور» عن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر راوين عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَعْمَلُونَ يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} إن عليًا ولي المؤمنين {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وخبر الغدير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقد زادوا فيه إتمامًا لغرضهم زيادات منكرة، ووضعوا في خلاله كلمات مزورة ونظموا في ذلك الأشعار وطعنوا على الصحابة رضي الله تعالى عنهم بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار صلى الله عليه وسلم، فقال إسماعيل بن محمد الحميري عامله الله تعالى بعدله من قصيدة طويلة:
عجبت من قوم أتوا أحمدا ** بخطة ليس لها موضع

قالوا له: لو شئت أعلمتنا ** إلى من الغاية والمفزع

إذا توفيت وفارقتنا ** وفيهم في الملك من يطمع؟

فقال: لو أعلمتكم مفزعا ** كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا

كصنع أهل العجل إذ فارقوا ** هرون فالترك له أورع

ثم أتته بعده عزمة ** من ربه ليس لها مدفع أبلغ

وإلا لم تكن مبلغا ** والله منهم عاصم يمنع

فعندها قام النبي الذي ** كان بما يأمره يصدع

يخطب مأمورًا وفي كفه ** كف علي نورها يلمع

رافعها، أكرم بكف الذي ** يرفع، والكف التي ترفع

من كنت مولاه فهذا له ** مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا

وظل قوم غاظهم قوله ** كأنما آنافهم تجدع

حتى إذا واروه في لحده ** وانصرفوا عن دفنه ضيعوا

ما قال بالأمس وأوصى به ** واشتروا الضر بما ينفع

وقطعوا أرحامهم بعده ** فسوف يجزون بما قطعوا

وأزمعوا مكرًا بمولاهم ** تبًا لما كانوا به أزمعوا

لا هم عليه يردوا حوضه ** غدًا، ولا هو لهم يشفع

إلى آخر ما قال لا غفر الله تعالى له عثرته ولا أقال، وأنت تعلم أن أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلًا، ولنبين ما وقع هناك أتم تبيين ولنوضح الغث منه والسمين، ثم نعود على استدلال الشيعة بالإبطال ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه الاتكال، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في مكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له: غدير خم، فبين فيها فضل علي كرم الله تعالى وجهه وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورًا وتضييقًا وبخلًا، والحق مع علي كرم الله تعالى وجهه في ذلك، وكانت يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة تحت شجرة هناك.